الكاتب خالد جمعة
أريد أن تتحول ذكرياتنا
معك إلى حقول فرح، لن أقول عنك شيئاً حزيناً، لأنك كنت دالّة الفرح في عيوننا
وقلوبنا مذ عرفناك، في عزائك، في يومك الأول، انتبهت إلى طبيعة الحضور، يا لها من
مفارقة، الجميع كان هناك، من عاديين ومسؤولين، وممن لهم رؤى متناقضة، قال لي روائي
يجلس بعيداً عن الحشد: الجميع أحب أحمد، ربما اختلفوا معه هنا أو هناك، لكن أحداً
لم يكرهه مطلقاً، ماذا تريد يا صديقي بعد هذا؟ غنيناك، بالذات تلك الأغنية التي
كنت تعشقها أكثر، والتي تتحدث عن اللوز الأخضر، أحسست بك تبتسم وتقول: أتمنى أن
يدوم هذا، وسيدوم يا صاحبي...
لن نذكرك كشخص مرت جنازته
من أمامنا، بل كرجل بذاكرة من فولاذ، كرجل أحاطه الشعر حتى غرق فيه وأغرقه في
ذاته، كرجل نعتمد على ما كان يقول أكثر مما اعتمدنا على الموسوعات، وكم من خطأ في
الموسوعات صححته لنا، وهذا لا مبالغة فيه.
سنعلم الأولاد في
المدارس، أنه يمكن أن يكون هناك رجل يكتب الشعر والأغاني، وفي ذات الوقت يجلس "مختاراً"
في زاوية بعيدة، حتى لا يكاد ينتبه لوجوده أحد، كانت قوة حضور الشعر فيك مذهلة،
ببساطة لأننا حين كنا نراك أو نسمع اسمك أو نقرأه، فأول ما يخطر ببالنا هو أنك
شاعر، لم نتخيلك يوماً تمارس شيئاً آخر في الحياة غير ذلك.
سنحكي عنك النكات، أقصد
تلك التي كنت تلقيها في المواقف المبهمة، وكم كانت تثير الضحك في المكان، نكاتك
كانت دقيقة وبسيطة وبحاجة إلى عقل حاضر كي يلتقطها، مثلك تماماً.
سنحدث الأولاد عن صورة "الصبرة"
المبروزة خلفك في مكتبك في وزارة الثقافة في غزة، الصبرة الخضراء التي ينبت منها "كوز"
ناضج، ورغم كل اللوحات التي أهداك إياها الفنانون التشكيليون من كل مكان في
العالم، لم تنتزع الصبرة عن حائط مكتبك، بقيت هناك ربما إلى الآن.
سنحدثهم عن وفائك
لأصدقائك، سواء أولئك الذين رحلوا، أو من هم على قيد الحياة، عن صورهم التي كنت تضعها
في إطارات ساذجة على رفوف مكتبتك في وزارة الثقافة، مثل صورة خالد أبو خالد مثلاً،
ورشاد أبو شاور، وعن إعجابك بموريس قبق الذي ما كنا نعرفه لولاك، وعن علاقاتك
بالشعراء الذين كتبت عنهم، من أصغر ولد بيننا، إلى أكبر شاعر اسماً وعمراً، فلم
تكتب عن شخص يوماً إلا وكان لك جزء شخصي في الكتابة، وهذا ما جعل كتاباتك أكثر
حميمية من كتابات الآخرين.
سأحدثهم عن إعجابك
بميخائيل نعيمة حين كان كل أقرانك معجبين بجبران خليل جبران، عن قراءاتك ونصائحك
للقراءة، أذكر لمعة عينيك وأنت تحدثني عن كتاب كرم على درب لنعيمة، بحثت عنه طويلا
وهو المطبوع في الستينيات، ووجدته وأريتك إياه وقرأنا معاً مقاطع منه، وما زلت إلى
الآن أوصي الناس به لأنك لم توص بكتاب لم يكن على قدر التوصية.
سأحدثهم عن محاولاتك
للرسم، وأقول لهم إن معظم الأغلفة التي كانت ترافق مقالاتك هي من خطوط يدك التي
تبدو كخطوط يد طفل ما زال يلعب على ساحل حيفا.
سأحدثهم عنك حين كنّا
هناك وجاءك الخبر بأنك حصلت على تصريح لزيارة حيفا للمرة الأولى، كم يبدو وصفك
صعباً، كيف كدت أن تنهار وفقدت القدرة على النطق لدقائق، كنت تحاول أن تصيغ مشاعرك
في جملة وفشلت، لأول وآخر مرة في حياتي أراك تفشل في صياغة مشاعرك في جملة، كانت
حيفا أكبر من الجمل وأكبر من التعبير عنها، وعندما زرتها قلت عبارتك المذهلة: رجعت
إلى حيفا ولم أعد إليها.
سأحدثهم عن فلسطينك التي
تبدأ من الناقورة شمالاً حتى أم الرشراش جنوباً، ومن البحر الأبيض غرباً إلى حدود
الأردن شرقاً، سأحدثهم كيف اخترعتَ جملتك التي صارت شعاراً: عدنا إلى الجزء المتاح
لنا من الوطن، لم تقل يوماً عدنا إلى الوطن.
سأحدثهم عن أشياء كثيرة،
عن حبك للغناء ومشاركتك إيانا في الجلسات، عن قبولك الدعوات الثقافية دون استثناء،
عن رضاك الهائل وعدم احتجاجك على ما يحاك ضدك، يا الله كم كنت مسالماً إلى حد
الوجع، وكم كبرت وكم صغر أولئك الذين لم يعرفوا من أنت... هم الآن أصغر بكثير يا
صاحبي، لذلك فأنت لا تراهم.
سأحدثهم وأقول لهم بكل
فخر وتعالٍ يليق بك: هذا الرجل كان صديقي لثلاثة وعشرين عاماً، وما زال.