بقلم/ منصور أبو كريم
كاتب وباحث سياسي
منذ سيطرتها على قطاع غزة بالقوة صيف عام 2007 بعد صراع مسلح مع أجهزة الأمن التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية عملت حركة حماس على إقامة كيان سياسي منفصل ومنعزل بشكل كلي أو جزئي عن باقي الأراضي الفلسطينية، تحت مبررات سياسية وأيديولوجية، فحكم الحركة لقطاع بدأ في نظر الحركة ومن خلفها جماعة الإخوان المسلمين النواة الأولى لحكم الجماعة الإسلامية لباقي البلاد العربية وهو ما كاد أن يتحقق خلال فترة ما سمي بالربيع العربي.
لقد عملت الحركة منذ اليوم الأول لسيطرتها على القطاع لإقامة مؤسسات وأجهزة إدارية وأمنية وشرطية مختلفة تمامًا عن الأجهزة التي كانت موجودة في عهد السلطة الوطنية من حيث الفكر والممارسة، فصبغت أجزتها الأمنية والإدارية بصبغة حزبية إلا القليل ممن استطاع الحصول على وظيفة بعيداً عن هذا السياق، ووجدت الحركة في بداية الأمر الدعم الكافي لتحقيق ذلك من بعض الأنظمة والقوى العربية الإقليمية خدمة لصالحها الإقليمية والاستراتيجية، لكن مع دخول المنطقة مرحلة المنعرجات والانعطافات الاستراتيجية مع تصاعد حدة الأزمة السورية وظهور صراع المحاور وجدت الحركة نفسها مضطرة أن تأخذ موقف سياسي محدد وتخرج من المحور الإيراني لصالح المحور القطري التركي ما كبدها الكثير من الخسائر ووضع أمامها الكثير من التحديات والأزمات.
كما أن الحركة لم تحسب حساب لعوامل كثيرة شكّلت في معظمها تحدي كبير ومصيري أمام استمرار حكم الحركة للقطاع، فهي استعجلت في بناء كيان سياسي (إمارة غزة) منفصل تماماً عن السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية بدون أن توفر لهذا الكيان مقومات البقاء والاستمرار، كالمقومات الاقتصادية والمالية والحياتية؛ بل ألقت بالعبء الأكبر في تحمّل المسؤوليات الصحية والتعليمية والخدماتية لسكان غزة على عاتق السلطة الفلسطينية وحمّلتها مسؤولية أزمة الكهرباء والمياه ونقص الأدوية الرواتب؛ ولم تحمّل الحركة نفسها عبء أي مسؤولية سوى مسؤولية جمع الضرائب والرسوم من المواطنين.
ولم تراعي الحركة أيضًا دكتاتورية الجغرافيا السياسية التي تحيط بالقطاع من كافة الاتجاهات، فعملت على الدخول في ثلاث حروب طاحنة مع الاحتلال الإسرائيلي بهدف كسر المعادلة واجبار إسرائيل على رفع الحصار وفتح المعابر بدون أي عائد حقيقي؛ بل تكبدت الحركة ومعها القطاع خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والبنية التحتية، ما أدى لتفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية في القطاع الأمر الذي أدى لارتفاع معدلات الفقر البطالة والجريمة والانحراف.
إضافة أن الحركة لم تراعي طبيعة العلاقة مع مصر، فدخلت في صدام سياسي وإعلامي مع الإدارات المصرية المختلفة، خاصة إدارة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وبداية ولاية الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، ولم تتحسن علاقتها مع القاهرة إلا خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها الرئيس الإخواني محمد مرسي مقاليد الحكم في القاهرة لاعتبارات أيديولوجية، كل ذلك أدى لإغلاق معبر رفح وتحول قطاع غزة لسجن كبير.
من الواضح أن فكر بناء الدولة ومقوماتها لم يمر على الحركة بعد، فالحركة اعتقدت أن بإمكانها تأسيس كيان سياسي منفصل في غزة تحيط به جغرافيا سياسية معادية من جهة وغير صديقة من جهة أخرى أمر سهل ويمكن التغلب عليه، لذلك عملت على وضع نفسها ومعها قطاع غزة في تحالفات إقليمية متعددة ومتخلفة رغبة منها في التخلص من سلطوية الجغرافيا المحيطة بها من جهة وتوفير المساعدات المالية والعسكرية من جهة أخرى؛ لكن الحركة اكتشفت بعد أكثر من عقد من حكمها لقطاع غزة أن الجغرافيا السياسية مازالت قادرة على التأثير في مجريات الأمور سلباً أو أيجاباً، فعلى سبيل المثال لم يستطيع رئيس المكتب السياسي للحركة القيام بأي جولة خارجية منذ توليه المنصب، واقتصرت زياراته الخارجية التي قام بها على القاهرة في إشارة لحجم التضييق المفروض على الحركة إقليمياً ودولياً، خاصة بعد وضع الولايات المتحدة الأمريكية هنية على قوائم الإرهاب، إضافة إلى الاستعدادات الإسرائيلية لشن عدوان جديد وفق أبعاد سياسية أصبحت معروفة للجميع.
ثمة ما يؤكد أن فكر الدولة لم يتغلغل بعد لدى حركة حماس، رغم أن الحركة حاولت خلال السنوات الأخيرة التغلب على فكر الحزب لصالح فكر الدولة، فالحركة حاولت خلال وثيقة المبادئ والسياسات العامة التخلص من كثير من المرجعيات الفكرية والأيديولوجية السابقة، والتي كانت تحدّ من قدرة الحركة على المناورة، من خلال التأكيد على البعد الوطني للحركة والتخلص ظاهريًا من علاقة الحركة بجماعة الإخوان المسلمين إرضاءً للقاهرة وبعض العواصم الأخرى، لكن ذلك لم ينعكس على الخطاب السياسي للحركة بشكل إيجابي، فرغم أهمية الوثيقة إلا أنها ظلت حبر على ورق، نظرًا لأنها لم تأتي نتيجة تطور في الثقافة السياسية للحركة أو نتيجة لتقييم جدي للمرحلة السابقة وإنما جاءت لإرضاء المجتمع الدولي وبعض العواصم الإقليمية.
أزمة دولة حماستان في غزة أعقد مما يتصوره أي عنصر في الحركة مهما علا شأنه، لأن فكر الحركة يقوم على تعظيم المكاسب والتقليل من الخسائر والهزائم، فالفوز في أي انتخابات نقابية أو بلدية على سبيل المثال هو تمكين من الله للحركة على الأرض، والخسارة مؤامرة كبيرة شاركت فيها كل القوى المعادية، ولا تتحمل الحركة أو اتباعها أي مسؤولية، لذلك أمامنا الكثير من الوقت لكي تبدأ الحركة في تقييم أوضاعها الداخلية وتجربتها العملية في الحكم بصورة صحيحة، بحيث تمهد الطريق لخروج الحركة من أزمتها.
خلاصة القول أزمة دولة حماستان في غزة هي ليست أزمة واحدة بل مجموعة من الأزمات المتداخلة والمعقدة والمركبة، منها ما يتعلق بأزمة الفكر والممارسة وغياب فكر الدولة لصالح فكر الحزب والحركة، ومنها ما يتعلق بغياب المقومات الاقتصادية والمالية لاسمرار وبقاء هذه الدولة وتوفير الحد الأدنى من مقومات الحياة لسكانها، ومنها ما يتعلق بدكتاتورية الجغرافيا السياسية المحيطة بهذه الكيان، إضافة لسوء الإداء السياسي والإداري، وكثرة التنقل بين التحالفات الإقليمية، ورغم أهمية هذه الأزمات التي تواجه دولة حركة حماس بغزة، إلا أن ربما الأزمة الأكبر والأعمق التي تواجه حاضر الحركة ومستقبلها تتمثل في أزمة غياب وعي الحركة بالواقع المحلي والإقليمي والدولي، وإصرارها على التمسك بهذا الكيان رغم كل ما يعانيه من تحديات داخلية وخارجية، فأزمة غياب الوعي والانفصال عن الواقع أحد أهم الأزمات التي تواجه سكان دولة حماستان في غزة.