الأديب محمد إقبال حرب
إذا لم تستقل "ڤان رقم 4" من
الضاحية الجنوبية إلى شارع الحمراء أو من أي نقطة على هذا الخط الطويل فقد فاتك
كثير من الدهشة والاثارة. تشعر به من على بعد كالسهم الموجه، يراك من بعيد، فيطلق
بوقه المميز ويقف بسرعة مذهلة وما أن تطأ قدمك سلمه حتى ينطلق بك في رحلته المثيرة
دون أن يكترث السائق لغلق الباب.
أنغام الموسيقى الشعبية أو الدينية
الزام استماع يحدده مزاج السائق. التوقف السريع والانطلاق الأسرع يدخلك عالم
الملاهي دون أي تكلفة إضافية وستقرأ الفاتحة والمعوذتين حتى لو كنت ملحداً، ستناجي
المسيح والعذراء وأنت صاغر دون الجرأة على مناقشة ربَّان السفينة الممهورة برقم 4.
الفيلم المثير لا ينتهي مع تجاوز
الإشارات بألوانها، بل سترى بأن آخرتك قد أفجعتك مراراً دون مقابلة عزرائيل. الحافلة
تقف بسرعة في أي مكان يوجد فيه راكب محتمل، وتقف في أي مكان لاقتناص الألف ليرة،
نعم أي مكان. في نصف الطريق، على تقاطع الطرقات، فوق حفرة أو تحتها، بل بوجود شرطي
أم لا، لأن سائف الفان رقم 4 لا يرى الشرطة أو قوى الأمن. إذا لم تمت رعباً في
الفان رقم 4 فستعيش طويلاً... لم تعد سُنَّة الحياة هي الفاصل لوجودك بل سُنَّة
الفان رقم 4.
تمهل قليلاً قبل الحكم.
فالڤان رقم ٤ يقدم خدمة اجتماعية
جليلة للمجتمع، فهو متوفر من الصباح الباكر وحتى منتصف الليل. كما يؤمِّن خدمات
جليلة لشريحة كبيرة من المواطنين الذين حرمتهم الدولة من النقل العام. إضافة إلى
الأجرة الزهيدة مقارنة مع سيارات الأجرة التي تضاعف الأجرة وتستغل الراكب ليدفع
الأجر مضاعفاً عندما تكون المسافة أطول مما يريد السائق.
لماذا كل هذه التصرفات الغير منطقية؟
الڤانات بأنواعها وأرقامها ما هي إلا
نسخة مكررة عن كافة الخدمات العامة التي لا تؤمنها الدولة كالكهرباء والماء
وغيرهما. الدولة واهمالها الممنهج يدفع الناس لتقديم مبادرات فردية لتأمين ما لا
تؤمنه الدولة مع سبق إصرار وترصد. سبق إصرار وترصد للمواطنين المبتسمين، فبسمة
المواطن وباء يزعج الدولة ورجالاتها إذ أن القانون المستور لا يسمح للمواطن أن
يبتسم، فالابتسام احتكار على أرباب السلطة وزبانيتهم. لذلك تنتزع الدولة البسمة
نزعاً مهيناً من كيانات البشر في الدوائر الحكومية، في الخدمات العامة المتآكلة،
وفي أسس الحياة التي تضمن الحد الأدنى من الكرامة. فالحد الأدنى للكرامة في لبنان
هو أدنى من الحضيض الذي تعشش فيه العبودية المقنعة. تصر الدولة على وجوب توزيع حصص
النكد والقرف والإهانة على كل مواطن لا يلتزم بقوانين المزرعة الطائفية التي تحتم
عليه تقديم القرابين لسيده ومندوبيه وزبانيته التي تصحح سيرة السعداء فتنقلهم إلى
أرض البلاء. الممارسات الممنهجة التي تتبعها الدولة تحت شعار الديمقراطية أتت
أُكلها وبات الشعب بأكثريته خرافاً في مزارع الاستبداد الطائفي التي توظف القديسين
لتركيع من توزعه نفسه على التمرد.
سائق الڤان يستأجره بما يزيد عن ٥٠٠٠٠
ليرة يومياً ويدفع ثمن البنزين. أي أن عليه أن يؤمن 70 راكباً على الأقل قبل أن
يبدأ بجمع قوت يومه. لذلك عليه أن يعمل بشراهة وجنون دون اكتراث لأي قانون فهناك
أسرة تحتاج إلى مأكل ومشرب ومأوى ناهيك عن الطبابة والتعليم. لا، لا يوجد رفاهية
في حلم سائق الفان. سائقي الڤان الذين يتفجرون إرهابا اجتماعياً يحاربون من أجل
لقمة العيش لأسرهم فيما يقدمون خدمة جليلة للمجتمع الذي نفاهم وحرمهم من إنسانيهم
بعدما حرمهم من التعليم ورفع عنهم حصانة الإنسانية. كذلك يفعل تجار ومافيات مولدات
الكهرباء وصهاريج الماء الذين يعوضون المواطن عما سلبته الدولة. كلهم يستغلون غياب
الدولة ويعملون تحت جناح مسؤول كبير يشاطرهم لقمة عيشهم مما يضطرهم لرفع الأسعار
التي تنهك كاهل المواطن الذي يدفع فواتير الماء والكهرباء مضاعفاً. يقول المثل:
"المال السايب بعلم الناس الحرام". والوطن بأرضه وشعبه سائب يستبيحه
اللصوص باسم القانون.
هم لا يقومون بأي حرام لأنهم يتبعون
شريعة الغاب من أجل البقاء لأنهم إذا لم يكونوا ذئاباً أكلتهم ذئاب المتسلطين
وزبانية الحكام. معظم المواطنين يعانون من غياب القانون الذي يحميهم. لا يهم
المواطن أن يكون القانون مكتوباً مسنوناً إذا لم يشعر به في حياته اليومية من خلال
حياة كريمة تشعره بإنسانيته. وحيث أن المواطن لا يشعر بقوانين الدولة في تأمين
كرامته يسعى للبديل كي يتحصل على كرامة مزيفة يؤمنها زعيم الطائفة المقدسة طالما
أنه يقدم قرابين الطاعة والولاء دون تردد. فزعماء الطوائف أقروا بتقسيم الدولة إلى
مزارع طائفية تكره المساواة، كما اتفقوا ضمنياً على إثارة مشاعر الكراهية بين جموع
كل طائفة ليضمن كل منهم ولاء نعاجه. أليس المطلوب من كل مواطن أن يخاف الطوائف
الأخرى ويتمسك بزعيمه ليحميه من صديقه وجاره وزميله في العمل؟
ألم تصبح مدارسنا وجامعاتنا كما
وظائف الدولة حصصاً طائفية يتنازع عليها أبناء الوطن الواحد بكراهية وحقد؟
مع تكتل سائقي الڤانات ومافيات
المولدات الكهربائية والمياه المسروقة تحت رعاية زعماء الطوائف الذين يبتزونهم من
أجل حمايتهم تحت شعار راية الدفاع عن الطائفة والدين. فرداء الدين ستار ترهيب
وترغيب يستغله أصحاب المنفعة فيما يُبقي المواطن الآخر كالحمار الصبور يحمل أثقال
الضرائب المسننة قانونياً والمتعارف عليها بلطجياً حتى ينال إحدى الحسنيين. فإما
أن يموت شهيد تراكم الضغوط الحياتية أو أن يقضي تحت عجلات الزعمات التي لم يخر لها
ساجداً.
ورغم كل ما سلف هناك أمل، أمل يعرفه
أبناء الوطن. ما عليك إلا الانتساب لزعيم ما أو ارتداء ثوب الطائفة مقدِّساً
مقدِّماً سبل الطاعة... لا، ليس للإله بل للزعيم. وولاؤك لا يتم إلا بكراهية
الطوائف الأخرى، ونبذ كل ألوان المحبة والوفاء لكل من تعرف من الطوائف والديانات
التي تنافسك على مباراة الوجود في وطن يتغنى بتعدد الطوائف المتناحرة. حينها فقط
ستقطف ثمار البقاء في مزرعة الطائفة فيمهرك زبانية صاحب السلطان بختم النعاج، نعجة
مخلصة مدللة تنتظر موعد التضحية بها في سبيل تيس أكبر.