رمزي الغزوي
في عالم يمتلئ بحيتان الكذب، سيكون
بلا طائلة أن تراهن على نجاة سمكة نيسان. أو أن تتنبأ لها بحياة تتجاوز الساعة،
ليس لأن حبال الأماني أكثر من واهنة، وأقصر من قصيرة، بل لأن الكذب الطريف الخفيف،
الذي كان يتملح به العشاق، بات سكراً يضيع في أجاج الأرض وملحها الدائخ.
ما زال الفرنسيين يسمون كذبة الأول
من نيسان بالسمكة الصغيرة، فليس أسهل من أن تسقط هذه السمكة /الكذبة في أول شبكة
ستلوح لها، أو أن تعلق بسنارة تتأرجح بخيط ضعيف وطعم سخيف. أو أن تفترسها حيتان
الكذب برمشة عين.
بين ملوحة الحقيقة وحلاوة الكذب
سيتساوى رشُّ الموت بالسكر مع شعار (الكذب ملح الرجال)، فكلاهما يتعامى عن حقائق
كان الأولى أن نواجهها ونعالجها، ولكن هذا العالم الغريب لا يحب أن يسمي الأشياء
بأسمائها الحقيقية، ويأبى إلا أن يلون أكاذيبه وألاعيبه من أسود وأحمر وأبيض. وسيبقى
أشد الألوان غموضاً هو الكذب الرمادي: أو الحقيقة المواربة. فتباً لأنصاف الحقائق
وأنصاف الأكاذيب.
في أيام الدراسة الجامعية كنا نعيش
في شقة، كان الطبيخ برقبتي ذات يوم، فضربت المحاضرة الأخيرة، وبسرعة عدت إلى
البيت، لأطلق العنان لصوت فيروز، وأهرع للمطبخ وتقشير البصل ودق الثوم، ورحت بلذة
أتفنن بطبخة من بنات أفكاري، فعمّ قليل سيصل الشباب مهترئين جوعاً، ويريدون ما
يقيم أودهم، ولأنني توهت على جسر اللوزية؛ اكتشفت أنني ملحت طبختي خمس مرات أو
أكثر.
وهنا وقعت بفخ لم أحسب حسابه،
فالشباب لربما يسامحونني على هذه الطبخة العفشيكية، ولكنهم لا محالة سيدلقونها على
رأسي، لأنها أكثر زعوقة من البحر الميت. ولهذا كان علي أن أتدارك أمري وأستخدم
حيلة علمية تعلمتها من نبش الكتب، فقشرت بضعة حبات بطاطا، ورميتها بالطنجرة لتحلي
طبختي.
بعد النضج اتلفت حبات البطاطا التي
امتصت ملحي الزائد، ولأن من عادتي أن أسمي كل طبخة أقترفها بحق زملائي باسم فني،
قلت لهم هذه (طبخة البطاطا)، وحين اعترضوا بأنهم لم يروا بطاطا في الطبخة، قلت لهم:
اللي بدري بدري ولما بدري يقول: حبة بطاطا.
فإذا كانت حيلتي الصغيرة قد أنقذتني
من شر الملوحة الزائدة. فكم سيحتاج هذا العالم من حقائق مقشرة؛ لتمتص ملوحة
أكاذيبه العامرة، وطبخاته الغامرة. كل نيسان أنتم الصدق.