نورية تزهو بها الطرق، خيالها يتلألأ على درب الفوار، تستقبل شمس الصباح بنضارة الأمل. رأيتها تهرول ناحيتنا بخطىً واثقة. رفّت حولها أسمال غجرية رمادية كأجنحة نسر شامخ يقترب من عرشه. سمعت ترددات صوتها همساً عبر أثير الصباح الذي يتماوج مع البساتين الخضراء في خراج بلدة البوشرية. مع اقتراب طيفها بان وجهها المتفجر فرحة فيما تضيء نجوم الوشم الثلاثية على ذقنها لترافق لمعة نابها الذهبي. بدأ الصوت ينبلج عن سر فرحتها معلناً بصوت يتراقص على مزمار حلم تحقق بعد طول انتظار “العرب انتصرت… العرب انتصرت”
كانت الساعة التاسعة والنصف من صباح الخامس من حزيران لسنة 67. كنت ووالدي قد غادرنا المنزل تاركين مذيع صوت العرب يصف بحماسة بالغة سقوط مئات الطائرات الصهيونية. بدا والدي مستاء من تواتر الأخبار المفرحة، وعندما سألته عن سبب انزعاجه من النصر العربي المبين قال بينما نخرج من البيت: لو كانوا يصطادون العصافير لما أسقطوا هذا العدد، هناك شيء غير طبيعي.
سرنا صامتين حتى برزت النورية من تعرجات دربنا تنثر بهجة النصر المبين وهي تتهادى أمامنا بأجنحتها لتبثنا خبر تحقيق حلمها. “العرب انتصرت… العرب انتصرت” في ايمان يتجاوز حدود البشر عبر قيثارة النقاء والثقة العمياء بقدر الأمة العربية.
مرت الأيام السوداء، وغطى وجه الأمة البلاء، وتراتيل الغجرية لم تتغير رغم كل ألوان الشقاء وبثور المذلة التي اقتحمت بشرتها في وباء الطاعون النفسي الذي قضى على أحلام أمة بكاملها. ما زلت أشعر بنبضها الذي يحيي من مات كمداً، ولا زلت أسمع تراتيل قلبها ترن على جدران ذكرياتي بصداها وهي تنسج أغنية النصر، تحيك رداء عزة وكرامة تمنته عبر سني عمرها
وسقطت الأمة في هوان الهزيمة كما سقط رداء الغجرية في آتون النصر الكاذب فتلون بتحطم الآمال على صخرة الحقيقة كما تحطمت أكاذيب العرب يوم أسقطوا طائرات العدو عبر إذاعة صوت العرب. لم تصدق النورية نبأ الهزيمة واعتبرته مؤامرة صهيونية فنشدت البراري حاملة ناي عشقها للوطن وأطلقت تراتيل لحن أزلي “العرب انتصرت
سراب النصر الواهي شراب الرعاع البسطاء، ظل دوحة العروبة ينكمش مع تكسر أغصان دوحة اقتلعها مستوطن غريب. يا ويلها تلك النورية من كرة الثلج المتأججة بنار العدوان والفناء، وحشها صهيوني يتغذى على الخيانة والنفط الحلال وحطبها شعوب حملت راية الإسلام والعروبة في رحلة نصر قادها عميان
وتدحرجت كرة الحقد المسموم عبر سنوات عمري، أعمار جيل كامل، عمر أمة بكاملها. كرة تحمل السموم فتُحطم الآمال وتعيد رسمها بأشلاء الشهداء، تضمخها بدماء الكبار والصغار. تبعثرت الطرقات والأزقة تحت ركام الأبنية وبقايا الكبرياء الممزوج برائحة النتانة حيث تصرخ النورية “انتصرت العرب”. توالى السقوط الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي كما سقطت مناقب الزعماء الذين أصبحوا تجار أوطان ومزارع. بيع المناضلون، وقتل الباقون وأصبحنا نستورد لقمة جافة نسد بها رمق أمة بكاملها…. حتى ولد أمل آخر بعد تحرر بيروت من شباك العنكبوت
أمل ولد في سراب، صنعته شريعة الغاب وأسمته ربيعاً، قتلته رضيعاً، وجندت لذبحه الفوضى الغير خلاقة بزعامة الإرهاب الذي جاء من كل حدب وصوب في خريف أسماه العدو ربيعاً. استقبله العربان وهللوا للطغيان فسقطت بغداد وطرابلس وبلاد الشام وترنحت بلاد الكنانة والسودان الذي تمخض عن مولود انفصالي. أصبحنا أمماً متناحرة، نتصارع على أحداث عمرها أربعة عشر قرناً، وجدنا ألف طريقة وفتوى لنقتص من هذا القريب وذاك البعيد حتى جفت الأنهار جفاف وجداننا، ويبست السهول يباس محبتنا، وهوت مدننا ركاماً على أشلاء أبناء الوطن الذين قتلناهم بأيدٍ تحمد الله على كل بلاء صنعناه بأيد ملطخة بالدماء. وجفت ينابيع الماء… وتآخى بحر أحلامنا مع البحر البيت دون عزاء
تنازع الزعماء على بقايا الوطن فتقاسموه مزارع تنتج حيوانات أليفة اسم كل منها “مواطن”. مواطن يتسول الكرامة ككسرة خبز على موائد الزعماء، يلهث خلف سيده من أجل قطرة ماء. يسير بين الأزقة خلف تلك الغجرية الساعية إلى سراب يجر أصفاده إلى معبد الزعيم ليرمي له فتات موائده أملاً في عمر أطول من أعمار المزرعة التي ينتمي إليها ليقطف ثمار حقد وطائفية وكراهية لباقي أبناء المزارع كما علمه ودربه سيد القصر وأفتى له رجل دين لم يرَ ربه
وعند المساء يجلس “المواطن” بختمه الطائفي، وانتمائه غير الفكري على القهاوي والشرفات يحتسي ما جاد به الزعيم من شراب حقد وكراهية من المحيط إلى الخليج ليردد لحن الغجرية بألف لحن ولحن “انتصرت العرب” فيما النارجيلة تكركر لحن الموت القادم من عمق الجهل والتخلف.